كما شاهدنا في الحلقات السابقة
تحدث أمور مُذهلة عند طور موت النجم.
إن كانت كتلة نواة النجم
أكبر 1،4 مرة من الشمس
يتحول إلى نجم قزم أبيض:
وهو كرة شديدة الحرارة من مادة مضغوطة
وبحجم كوكب الأرض تقريبًا،
أمّا إن كانت نواته أثقل
أي بكتلة أكبر بنسبة
من 1.4 إلى 2.8 مرة من الشمس
فسينهار بشكل أكبر ليصبح نجمًا نيوترونيًا
قطره عشرون كيلومترًا فقط.
ويقاوم حساء النيوترونات داخله الانهيار
ويمنع النواة من التقلص أكثر.
ولكن ماذا لو كانت الكتلة
أكبر من 2.8 ضعف كتلة الشمس؟
إن حدث ذلك، فستغلب جاذبية النواة
مقاومة النيوترونات وتواصل الانهيار.
ما القوة التي ستوقفها الآن؟
تبيَن أنّه لا يمكن لأي قوة إيقافها.
ليس هناك في الكون
ما يمكنه إيقاف انهيارها.
ونواة النجم ستتبدد.
تحدثت في الحلقة رقم 7 عن سرعة الإفلات،
أمر يوشك أن يصبح ذو أهمية
في أحداث انهيار نواة نجم عال الكتلة.
إنّها باختصار السرعة اللازمة
لقذف مادة من سطح جسم ما لدفعه للإفلات.
سرعة الإفلات في كوكب الأرض
11 كيلومتر/الثانية تقريبًا،
وحركة جسم ما بتلك السرعة تجعله يفلت
ولا يعود إلى السقوط.
أما سرعة الإفلات في الشمس ذات الجاذبية
الأقوى من الأرض فتفوق 600 كم/الثانية.
والنجم النيوتروني بقوة جاذبيته الهائلة
تفوق سرعة إفلاته 150 ألف كم/الثانية،
أي نصف سرعة الضوء!
تذكروا ذلك
ولنعد إلى نواة النجم في طور انهيارها.
تزداد قوة جاذبية النجم كثيرًا
أثناء انكماشه،
ذلك يعني أنّ قوة إفلاته تزداد كذلك.
وعندما يكون بحجم نجم نيوتروني
تبلغ سرعة إفلاته نصف سرعة الضوء.
ولكنّه عندما يكون بكتلة أكبر 2.8 مرة
من الشمس تواصل نواته انهيارها.
عندما يقل حجمه قليلًا إلى 18 كم تقريبًا
يحدث له أمر مُذهل:
تعادل سرعة الإفلات على سطحة سرعة الضوء.
وتلك مشكلة
لأنّ سرعة الضوء هي أقصى سرعة في عالمنا،
حتى الصخر والصواريخ والضوء ذاته.
فور انكماش نواة نجم
إلى حجم أصغر من ذلك الحجم السحري
لا يعود بإمكان شيء الإفلات منه
ولا تستطيع أي مادة الخروج،
كأنه حفرة لا قعر لها.
فلا يخرج منه ضوء،
أي أنّه أسود إذن.
يجدر بنا ابتكار اسم لافت لهذا الجسم.
الثقب الأسود هو الحالة النهائية القصوى
لنجم عال الكتلة.
ما يحدث داخل الثقب الأسود يبقى داخله.
منطقة الفضاء تلك
وذلك السطح حول الثقب الأسود
حيث تعادل سرعة الإفلات سرعة الضوء،
يُدعى أفق الحدث لذلك السبب.
ولا يمكن معرفة ما يحدث داخله.
إنّه يفوق إدراكنا.
تعبث الثقوب السوداء
بمفاهيمنا عن المكان والزمان.
علوم حساب وفيزياء الثقوب السوداء
معقدة جدًا
لدرجة أنّ علماء الفيزياء
وحتى بعد عقود من دراستها
ما زالوا مختلفين بشأن الكثير من خواصها.
وأدّى هذا إلى مفاهيم خاطئة كثيرة عنها.
حسنًا، فلنقل هذا وننتهي فورًا:
لا يمكن للشمس التحول إلى ثقب أسود.
يتطلب التغلب على ضغط انحلال النيوترونات
كتلة نواة نجمية بثلاثة أضعاف كتلة الشمس.
ذلك يعني أنّ على كتلة النجم الأساسي
أن تكون 20 ضعف الشمس أو أكثر.
أي أنّنا في مأمن
من ذلك الاحتمال الخيالي علميًا.
وإليكم مفهوم خاطئ آخر:
يظن كثيرون أنّ الثقوب السوداء
هي منظفات خوائية كونية،
تمتص كل ما يقترب منها.
ولكنّ ذلك ليس صحيحًا.
نعم، لديها قوة جاذبية هائلة،
ولكنّ عليكم الاقتراب منها أولًا.
مصدر قوة الثقب الأسود هو كتلته بالتأكيد
ولكنّ حجمه مساو لذلك بالأهمية،
أو عدم وجود حجم له في الواقع.
إن كان باستطاعتكم تحويل الشمس
إلى ثقب أسود، وذلك غير ممكن،
ولكن فلنتظاهر بأنّه ممكن،
فستدور الأرض حولها كما تفعل الآن تمامًا.
لا يتأثر كوكب الأرض بحجم الشمس
لأنّه يبعد 115 مليون كم عنها،
فنحن بعيدون جدًا عنها
ولا نجد لحجمها أهمية.
يصبح الأمر مهمًا عند الاقتراب منها.
تذكروا ما ذكرناه عن الجاذبية
في الحلقة رقم 7:
تعتمد قوة جاذبية جسم ما
على حجمه وبُعدكم عن مركزه.
أقرب ما يمكن بلوغه من الشمس
أي بلمسها والوقوف على سطحها
يبعد 700 ألف كم عن مركزها.
إن اقتربتم أكثر من مركزها تصبحون داخلها
ولا تعود المادة الخارجية
تجذبكم إلى الداخل
فتقِلّ الجاذبية التي تشعرون بها.
ولكن إن انكمشت الشمس 6 كم
تُصبح ثقبًا أسودًا.
ويمكن الاقتراب منها
أكثر من 700 ألف كم،
فتشعرون بجذب يزداد قوة
كلما تقتربون منها.
لذلك فإنّ ثقبًا أسودًا بعيدًا
بعشرة أضعاف كتلة الشمس
سيجذبكم بقوة نجم تقليدي له الكتلة نفسها.
كما يمكنكم الدوران في مدار ثقب أسود
إن لزمتم مسافة آمنة منه.
الدوران حول ثقب أسود ذو 10 أضعاف
كتلة الشمس كنظيره من النجوم،
باستثناء فرق الحرارة والسطوع.
الثقوب السوداء عجيبة بما يكفي
من دون المفاهيم الخاطئة.
كما أنّ للثقوب السوداء أحجام مختلفة.
أقل كتلة للثقوب السوداء التي ذكرتها
تبلغ 3 أضعاف كتلة الشمس.
وقد يبلغ أقصاها
12 ضِعف كتلة الشمس أو أكثر،
إن كان النجم الأصل كبيرًا كفاية.
نسمي هذه ثقوب سوداء نجمية.
وتزداد كتلتها بابتلاعها المزيد من المواد
وينمو أفق الحدث أيضًا.
أي أنّ الثقب الأسود يكبر.
أول مُقترَح لفكرة تشكّل ثقوب سوداء هائلة
في قلب المجرات كان في السبعينيات،
وعُثِر على أول ثقب أسود بعد فترة
في قلب مجرتنا، مجرة قلب اللبانة.
ويعادل قياسنا لكتلتها
4.3 مليون ضِعف كتلة الشمس!
فأصبحنا نعتقد
أنّ في قلب كلّ المجرات ثقب أسود.
وقد تكون أساسية لتكّون المجرات.
سأدلي بالمزيد عنها في حلقة أخرى.
إليكم فكرة ممتعة:
ماذا سيحدث إن سقطتم داخلها؟
أو داخل ثقب أسود نجمي
بكتلة تعادل عشرة أضعاف الشمس؟ ستموتون.
ولكن ما سيحدث في جزء الثانية
السابق لزوالكم من الكون مثير للاهتمام.
للمد الكوكبي أهمية بالغة
كما لاحظنا من نظامنا الشمسي.
إنه يزداد
لأنّ الجاذبية تضعف بازدياد المسافة،
وبذلك يمتد جسم كبير كالقمر
بفعل جاذبية كوكبه:
أي أنّ الجزء البعيد من القمر
يُجذب بقوة أقل من الجزء القريب.
جاذبية الثقب الأسود هائلة جدًا
ولذلك فإنّ المد الذي تُحدثه هائل.
إنّها قوية جدًا لدرجة أنّكم إن سقطتم
بسيقانكم أولًا داخل ثقب أسود نجمي الكتلة
قد تكون القوة الجاذبة لأقدامكم
أقوى مليون مرة من القوة الجاذبة لرؤوسكم.
وتذكروا أنّ حتى أضأل مد كوكبي
يمكنه تمزيق الأقمار.
عندما تحسبون ضعف تلك القوة بمليون مرة
ستجدون أنّكم في مأزق.
فأقدامكم ستُسحب بقوة أكبر من رأوسكم
عندما تسقطون إلى الداخل وتتمددون
كما يحدث للحلوى المشدودة.
فنصبح شريطًا طويلًا ونحيلًا طوله كيلومترات
ولكنّ عرضه أقل من قطر شعرة.
يُسمي علماء الفلك ذلك – وبلا مُزاح –
التأثير المعكروني.
يحدث ذلك من مسافة قريبة جدًا
من الثقب الأسود، أي عشرات الكيلومترات.
إن سقطتم من مسافة بعيدة فستقارب سرعتكم
سرعة الضوء عند تلك النقطة،
ولن يبقى لديكم إلّا جزء من الثانية
قبل أن تقتلكم. مرحى!؟
لاحظوا أنّ هذا
خاص بالثقوب السوداء نجمية الكتلة.
أما الثقوب السوداء فائقة الضخامة
فأكبر بملايين أو مليارات الكيلومترات.
والمسافة بين أقدامكم ورؤوسكم
صغيرة مقارنةً بذلك الحجم،
ما يجعل المد الحاصل بينها
قليلًا بالمقارنة.
ستسقطون إلى داخلها بلا تأثير
إن كان ذلك يواسيكم.
ولكنّ حجم النجم كبير
بالمقارنة بنوعي الثقوب السوداء،
وقد يُخلّ المد بتوازنه
باقترابه من أي نوع ثقب أسود.
شهد علماء الفلك مثل ذلك الحَدَث
في آذار (مارس) عام 2011.
يبدو أنّ نجمًا في مجرة بعيدة
اقترب كثيرًا من ثقب أسود،
فمزقه المد الشرس.
وبينما دُمِرَ النجم ازداد ضوءه سطوعًا
باعثًا ترليون ضعف طاقة الشمس لحظيًا.
فتمكنّا من رؤيته بفضل ذلك
رغم أنّه يبعد عنا مليارات السنين الضوئية.
ولكنّني احتفظت بأغرب التفاصيل للنهاية.
إحدى نظريات ألبرت أينشتاين المهمة
هي أنّ الفضاء ليس مجرد فراغ،
بل هو شيء ملموس
كنسيج يتضمن كل المواد والطاقة.
ما نعتبره قوة جاذبية هو عوجاج مكاني
كالانبعاج الذي تصنعه كرة بولينغ على فراش
وكلما كبر الجسم ازداد الفضاء انبعاجًا.
ليس ذلك فحسب،
بل وأنّ الفضاء والزمان وجهان لعملة واحدة.
وذلك ما نسميه حاليًا الزمكان.
لا يمكن التأثير في أحدهما
من دون التأثير في الآخر.
قدّر أينشتاين أنّ الجسم الضخم
عندما يبعج المكان يحرف الزمان أيضًا.
لذلك فإن إدراك الزمن
لشخصٍ متأثرٍ بجاذبية جسمٍ
أبطأ من إدراك الزمن لشخص بعيد عنه.
أعلم، ذلك غريب.
فنحن نظن أنّ الزمن انسيابي
وأنّ على الجميع رؤيته يتحرك بالمعدل نفسه.
ولكنّ الكون غير مُلزم
بالانصياع إلى مفاهيمنا.
كان أينشتاين محقًا،
كان محقًا بأمور كثيرة.
يزداد تباطوء الزمن هذا قوةً
بازدياد جاذبية الجسم.
لذلك تسير ساعاتكم ببطء
مقارنة بشخص بعيد عن كوكب الأرض.
التأثير ضئيل ولكنّه حقيقي
وقسناه على الأرض بساعات شديدة الدقة.
ومن جانب آخر، إن اقتربتم من ثقب أسود
يزداد ذلك التأثير قوة.
في الحقيقة
تحرف الثقوب السوداء الزمكان بشِدّة
لدرجة أنّ الزمن يتوقف في أفق الحدث.
سترون ساعاتكم تعمل بشكل طبيعي
وتسقطون داخل الثقب وتختفون ببساطة.
ولكنّ شخصًا بعيدًا عنكم
سيرى ساعاتكم تسير ببطء بينما تسقطون.
وليس هذا تأثيرًا مكانيكي أو إدراكي:
إنّه منسوج ضمن تركيبة الفضاء.
بالنسبة لشخص ينظر إليكم من الخارج
سيستغرق سقوطكم وقتًا لا نهاية له.
ولكنّه لن يتمكن من رؤيتكم بحق.
لأنّ على الضوء الذي تبعثونه
مقاومة الجاذبية الهائلة للثقب الأسود،
فيفقد بذلك من طاقته.
هذا مماثل جدًا للزحزحة الحمراء
لتأثير دوبلر الذي ذكرته في حلقة سابقة،
ويُدعى انزياح أحمر جذبوي.
عندما تكونون في أفق الحدَث
ويرى شخص بعيد ساعاتكم تتوقف،
سيرون الضوء الصادر منكم أيضًا بلون أحمر!
سيفقد ضوءكم كل طاقته
محاولًا الخروج من الثقب الأسود،
وتختفون عن الرؤيا.
وماذا بشأن منظوركم أنتم؟
استعدوا لأنّ الإجابة مُذهلة.
سترون الكون يتسارع
وسينفد الزمن فور وصولكم أفق الحدث.
كلّ الزمن! وينزاح كل الضوء
الآتي إليكم من الكون نحو الأزرق،
وستحرقكم طاقته الشديدة
ولكنّكم على الأرجح لن تكترثوا
لأنّكم توشكون السقوط في ثقب أسود.
هل ترون؟ هذا مُذهل كما قلت لكم!
الثقوب السوداء غريبة جدًا
وتشرحها نظريات حساب وفيزياء معقدة جدًا،
ولكنّ العلماء ما زالوا يحاولون
اكتشاف حقائقها الأساسية.
فبعض العلماء مثلًا يجادلون بأنّ أفق الحدث
تبعًا لمفهومنا قد لا يكون موجودًا.
وأنّنا بتطبيق ميكانيكا الكمّ
لفيزياء الثقوب السوداء
نجد أنّ الجزيئات قد تتسرب خارجها ببطء.
ما زال الأمر جديدًا علينا ونجتهد لفهم
أحد أكثر الأجسام الكونية تعقيدًا.
الثقوب السوداء،
ورغم غرابتها ومخالفتها للبديهة،
تواصل الظهور في كلّ مكان
كلما اكتشفنا المزيد من الأجسام الفلكية.
وبينما تبدو مخيفة وغريبة
– وهي كذلك بصراحة –
إلّا أنّها شكّلت معظم الأجسام
التي نراها في الكون.
تعلمتم اليوم أنّ الثقوب السوداء الضخمة
تتشكل بموت نجم عال الكتلة وانهيار نواته.
يجب أن تفوق كتلة نواتها 2.8 ضِعفًا
من كتلة الشمس لتشكّل ثقبًا أسودًا.
للثقوب السوداء أحجام مختلفة،
ولكنّ سرعة الإفلات فيها تفوق سرعة الضوء.
لذلك لا يمكن لشيء الهرب منها
سواءً كان مادة أو ضوء.
إنّها لا تتجول في الكون
وتبتلع كلّ ما حولها.
فجاذبيتها أكثر تركيزًا
في المسافات القريبة منها فقط.
المد الكوكبي قرب ثقب أسود نجمي
سيحولكم إلى خيط معكروني،
كما يصبح الزمن أبطأ باقترابكم منه.
ولكنّ ذلك لن يساعدكم كثيرًا
إن كنتم تسقطون إلى داخله.
أنتج هذا البرنامج
بالاشتراك مع PBS Digital Studios.
زوروا قناتهم
لتجذبكم المزيد من الأفلام الرائعة.
كاتب هذه الحلقة هو أنا، فيل بليت
وتحرير النص من بليك دي باستينو
باستشارة من دكتور ميشيل ثالر
وإخراج نيكولاس جنكينز ومونتاج نكول سويني
وتصميم الصوت من مايكل أراندا
والرسومات من إعداد فريق Thought Café.