يجد الفلكيون سهولة في التحدث
إلى الجمهور. ربما أكون متحيزًا،
لكنني أعتقد أن علم الفلك هو
أجمل العلوم. مؤكد أن مجالات
العلوم الأخرى جذابة،
لكن ما علي إلا أن أسحب صورة لزحل
وسأفوز لأنه… زحل. كله مبهر،
الكواكب والأقمار والنجوم والكتل.
لكن من بينها كلها، لا يمكنك
تجاهل سديم. لماذا؟ لأنه سديم.
“السديم”
نيبيولا تعني سحابة باللاتينية. وهذه المرة،
لدينا في الفلك اسم يصف الشيء بدقة.
السديم هو سحب من الغاز والغبار في الفضاء.
وقد تحدثت عنه قليلًا مسبقًا.
فمثلًا، النجوم تتكون من السدم.
هكذا نشأت شمسنا منذ حوالي 4.6 بليون
سنة، حين يموت نجم متوسط
يطلق رياحًا من الغاز، ثم يضيئها
كما يوضح لب القزم الأبيض النجمي.
مكونًا سديمًا كوكبيًا.
وأيضًا حين ينفجر نجم عالي الكتلة
فإنه يبخّر نفسه بطريقة مأساوية
متحولًا إلى سحابة غازية متمددة بقوة.
السدم حرفيًا، جزء من ولادة وحياة
وموت النجوم. إذن، إضافة لجمالها،
هي متعددة الجوانب.
يوجد عدة أساليب لتصنيف السدم.
إحداها، بناء على طريقة رؤيتنا لها.
فمثلًا، لو انفجرت سحابة غاز
بسبب ضوء نجم كبير قريب،
يصير الغاز فيه نشطًا،
وتقفز الإلكترونات في ذراته
إلى مستوى عال من الطاقة،
حين تسقط الإلكترونات تولد ضوءًا.
يتوهج الغاز ونسمي ذلك السديم الانبعاثي.
يعتمد لون السديم الانبعاثي
على كمية ودرجة حرارة الغاز فيه.
فالهيدروجين مثلًا، يتوهج أكثر بلون أحمر.
ونرى هذا اللون في معظم السدم الانبعاثية.
يميل الأكسجين إلى التوهج باللون الأخضر.
لكنه يتوهج باللون الأزرق أيضًا بدرجة أقل.
والعناصر الأخرى تتوهج بمختلف ألوان الطيف
وهذه الألوان ليست محدودة بالضوء المرئي،
فالهيدروجين يمكنه أن يولد شعاعًا تحت أحمر
وحتى موجات الضوء اللاسلكية.
وإذا نُشط كفاية، فسيبعث شعاعًا فوق بنفسجي.
وهذا صحيح بالنسبة لعناصر كثيرة.
رغم أن معظم السدم الانبعاثية تبدو متينة
إلا أنها في الحقيقة هشة جدًا.
الكثافة القياسية للسديم
هي بضعة آلاف ذرات في السنتمتر المكعب.
لاحظ أن في الهواء الذي تتنفسه مكون
من 10 مرفوعة للقوة 19 ذرة في السنتمتر المكعب.
وهذا أكثف ألف تريليون مرة من السديم القياسي.
الحقيقة أن السديم بالكاد مجرد خواء.
السبب في مظهرها السحابي
هو أنها كبيرة… كبيرة جدًا.
السديم ذو الحجم الطبيعي يبلغ قطره
بضعة سنوات ضوئية،وهذه سنتمترات كثيرة.
تلك الكمية من الغاز
تتجمع لذا قد تكون بعض السدم ساطعة جدًا.
بينما يشع السديم الانبعاثي بضوئه
الذاتي، فإن السديم العاكس شع لأنه…
أيمكن أن تخمنوا؟ إنه يعكس
ضوء النجوم الكبيرة المشعة القريبة.
مع ذلك، في هذه الحالة فإن السدم
ليست مكونة من الغاز،
بل إن معظمها غبار. ولا أعني الشعر
والغبار والوبر الذي تجده تحت أريكتك.
حين يتحدث الفلكيون عن الغبار
فهم يقصدون حبوبًا دقيقة عرضها ميكرون،
وللعلم فقط…
شعرة الإنسان أعرض من ذلك مئة مرة.
تلك الحبوب الصغيرة تحتوي أشياء
كالسيليكا وأكسيد الألمنيوم والكالسيوم،
وفي حالات كثيرة، يرتبط هذا الغبار
بجزيئات مركبة
تسمى “الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات”.
حسنًا، أحب هذه التسمية الفاخرة
لكنك قد تعرفها أكثر باسم…
سوت، نعم، حين تشعل عود ثقاب،
فأنت غالبًا تنتج
نفس المادة المتوارية بين النجوم.
الغبار لا يبعث ضوءًا مرئيًا،
لكنه يؤثر في ضوء النجوم المرئي
إن كان داخل سحابة الغبار أو قريبًا منها.
اتضح أن الغبار مفيد جدًا في تشتيت الضوء.
أي أن الضوء
حين يلامسه يطرد في اتجاه آخر.
هذا التشتيت يعتمد كثيرًا على طول الموجة.
لذا، فالضوء الأزرق يُشتت بقوة كبيرة،
بينما يعبر الضوء الأحمر باستقامة.
رأينا هذا في الحلقة الماضية.
الغبار المحيط
بمجموعة نجم الثريا هو سديم عاكس.
الضوء المنبعث
من نجوم الثريا شتته الغبار القريب،
وشُتت الضوء الأزرق بكل اتجاه
ومن ضمنها اتجاهنا.
الضوء الأحمر لا يشتت فلا نراه.
فهو لا يُرسل نحونا إطلاقًا.
الغبار الكثيف له القدرة أيضًا
على امتصاص الضوء المرئي.
إذا أحيط نجم بغبار كافٍ،
فسيخفت ضوؤه كثيرًا. إذا كانت السحابة كثيفة
أو كبيرة كفاية، فبإمكان الغبار
أن يطفئ تمامًا ضوء النجم.
وفي الوقت نفسه، إذا كانت
كثافة الغبار مناسبة فإن الضوء الأزرق
المنبعث من النجم داخل السحابة يتشتت.
بينما ينفذ الضوء الأحمر.
وهذا يؤثر في احمرار ضوء النجوم.
وفي بعض سحب الغبار،
يمكن أن يوفر مشهدًا أخاذًا.
النجوم خارج السحابة تبدو طبيعية
لكن كلما اقتربنا تزداد حمرة ثم تتلاشى تمامًا.
والنتيجة، حفرة ضبابية
حمراء الحواف في الفضاء.
يمكنك أن ترى هذا التأثير
في برنارد 68، وهي سحابة غبار صغيرة
حجمها نصف سنة ضوئية فقط.
هذه تسمى أحيانًا “سحب الجزيئات”.
وهي باردة لدرجة أن الذرات يمكن أن تتحد لتشكل
جزيئات. حرارتها قد تصل مئات الدرجات تحت الصفر
بعض سحب الغبار كهذه صغيرة نسبيًا.
لكن الأخرى قد تتضخم كثيرًا.
ونسميها “السحب الجزيئية العملاقة”،
بسبب ألا مانع من ذلك.
هذه قد تكون ضخمة جدًا بما يعادل
كتلة الشمس بمئات أو مئات آلاف المرات.
وتمتد مئات من السنوات الضوئية.
وهذا يوصلنا إلى أحد
أبهى الأشياء في السماء، سديم الجبار.
هذا سديم انبعاث يقع تحت حزام الجبار
وهو في الحقيقة شيء يرى بالعين المجردة.
في سماء ظلامها معتدل.
إنه يبدو كنجم مرئي بالعين
لكن حتى المجهر يظهره ضبابيًا.
بالتلسكوب أو صور المراقبة الطويلة تحظى
بعظمة مهدئة. سديم الجبار مصنع تشكيل النجوم.
ولدت فيه مجموعة من النجوم،
بعضها كبيرة جدًا وساطعة جدًا.
السديم كله مضاء بـ4 نجوم تقع في مركزه.
وتُسمى كمجموعة بـ “شبه المنحرف”.
هذه أربعة نجوم صلبة وضخمة ولامعة
وكل واحد منها أكبر كثيرًا من الشمس.
ضوؤها شديد السطوع
حتى إنه يضيء كل السديم البالغ عرضه
حوالي 20 سنة ضوئية.
وإليكم العجيب، في “سديم الجبار”.
ما تراه ليس مجرد سحابة غازية في الفضاء
بل هو في الحقيقة مجرد فقاعة تقع
على حافة سحابة جزيئية أكبر منها كثيرًا،
يبلغ عرضها مئات السنين الضوئية.
تلك السحابة باردة ومعتمة،
لذلك لا نراها بالعين المجردة. نجوم شبه
المنحرف تكونت في تلك السحابة قرب الحافة.
حين بدأت بتحويل الهيدروجين
إلى الهيليوم، بدأت بتدمير كمية مذهلة
من الأشعة تحت الحمراء
التي أخذت تتلاشى مع الغاز والغبار.
وأخيرًا فجرت فتحة في جانب السحابة،
مثل انفجار نقطة ضعيفة في عجل دراجة.
ما نراه على أنه سديم الجبار المذهل
صار مجرد حفرة
أو فجوة على جانب السديم مملوءة بالغاز
سخنتها النجوم إلى درجة التوهج.
لا تزال النجوم تتكون هناك حاليًا. أعني
حرفيًا، الآن. يمكننا رؤية هذا أثناء حدوثه.
في الحلقة الثامنة
تحدثت عن النظام الشمسي
وكيف بدأ كقرص مسطح من الغاز
والغبار. حين ننظر إلى سديم الجبار
بمرصد هابل نرى تلك الأقراص،
وهي تُسمى أقراص الكوكب الأولية.
وهي كثيفة جدًا، لدرجة امتصاص كل الضوء
المنبعث من النجوم المتكونة بداخلها.
فهي معتمة إذن. ونحن نراها
خيالًا مقابل ضوء السديم الساطع.
إلا إذا نظرت من خلال الأشعة تحت الحمراء
هذا الضوء يمكنه اختراق القرص المعتم.
وحين نستخدم تلسكوبات الأشعة تحت الحمراء
نستطيع رؤية النجوم الأولية
وهي تتكون في مراكز هذه الأقراص.
انظروا جيدًا، هذه صغار النجوم
حرفيًا، نجوم تتكون في هذه اللحظة.
لا تزال ساخنة
بسبب انكماشها، لكن بعد بضعة ملايين سنة
ستطلق الإدماج
في لبّها وتصير نجومًا حقيقية.
ستطرد المواد الباقية حولها.
وستكشف عن نفسها
وربما عن الكواكب التي تدور حولها أيضًا.
في الحقيقة، ما إن يبدأ
تكوّن نجم في سديم حتى تصير أيامه معدودة.
سديم النسر مصنع نجوم آخر.
تجري داخله عملية تكوّن نجوم نشطة.
بعضها نجوم كبيرة ساطعة.
تصدر أشعة فوق بنفسجية قوية
تفكك السديم المحيط بها
في عملية تسمى “إزالة الغلاف المحيط” .
إلا إن عقد المادة الكثيفة التي تشكل النجوم
الجديدة يمكنها مقاومة التعرية بشكل أفضل،
وحماية أصل المادة التي خلفها
بإلقاء الظل عليها مما ينتج عنه
امتدادات طويلة من المادة نراها
في الظل مقابل الغاز الأسخن
مثل تموجات الرمل في النبع. بمراقبة الأشعة
تحت الحمراء يمكننا أيضًا
رؤية النجوم الموجودة داخلها. يوجد
آلاف من تلك الأبراج العملاقة في سديم النسر
ثلاثة منها سميت “أعمدة الخلق”.
النجوم تتكون عند أطرافها.
رغم ذلك، في النهاية
سينتصر ضوء النجوم الكبيرة
محطمًا الأسس ومزيلًا لها.
يوجد أيضًا بعض
الغازات شديدة السخونة في السديم
قد تنتج عن نجم انفجر مسبقًا.
إن كان هذا صحيحًا،
فلم يبق الكثير في عمر الأعمدة.
ففي بضعة آلاف سنين،
لن تكون تآكلت بل فجرت.
كثير من السدم ليس لها حد فاصل،
فهي نوعًا ما تتلاشى
أحيانًا لأن الغاز نفد،
فلا يوجد مادة كافية لتضاء وترى
وأحيانًا لأنه لا يوجد
إلا نجم أو بضعة نجوم تضيء السحابة كلها،
وعلى مسافة منها يخفت ضوء النجم
ولا يستطيع طرد الغاز، لكن أحيانًا
يكون للسديم حوافّ حادة
وهذا يحدث عادة حين تتمدد سحابة الغاز
كما في السديم الكوكبي
أو في “المستعر الأعظم”، إذ يصطدم الغاز
بغاز أخف منتشر بين النجوم
وهو ما نسميه البين نجمي المتوسط.
الغاز المنتشر يتراكم
كالثلج على كاسحة الثلوج
ويزداد كثافة ويتوهج بسطوع أشد.
الغاز في السديم قد يكون في اضطراب
أيضًا. الرياح من النجوم، وتكثف الغاز،
والموجات الصادمة الناتجة
عن تفجر النجم أو ولادته.
هذه قد توجد أوراق تعريشة جميلة،
أو خيوط متشابكة في السدم أيضًا.
كل هذه العناصر يمكن أن تتجمع
لتخلق جمالًا رائعًا.
ليس بعيدًا عن سديم الجبار في السماء، يوجد
سديم معتم آخر متراكب مع سديم انبعاني مشرق.
بالصدفة، المادة
الكثيفة المعتمة تشبه قطعة شطرنج عملاقة
وتسمى “سديم رأس الحصان”.
وقد تآكل بسبب نجم
يسمى سيغما أوريانوس، ويظهر في أعلى
الشاشة. وهذا أيضًا يجعل الغاز خلفها
يتوهج عند تلك الحافة الحادة.
أحد سدمي المفضلة في السماء
برناردز لوب، مادة كثيفة هائلة تشكلت
إما بتمدد الغازات من “المستعر الأعظم”
أو بفعل الرياح من النجوم الكبرى
أثناء ولادتها في مجموعة الجبار.
كما أنها الحافة الخارجية لفقاعة ضخمة
تحيط بكمية أساسية
من الفضاء في مجموعة الجبار.
في هذه الصورة يمكنكم
مشاهدة سديمي الجبار ورأس الحصان
سديم لوب كبير لدرجة أن عرضه يتسع
لـ25 قمرًا.
شيء آخر، كنت أتحدث عن السدم المضيئة
والمعتمة، لكن هذا أسلوب قديم لدراستها
قلت أيضًا إن الأشعة
تحت الحمراء تنفذ منهما، لكنكم تذكرون
من الحلقة 24 أن نوع الضوء
الذي يبعثه الجسم يعتمد على حرارته
سحب الغبار التي تبدو
معتمة في نظر الناس، هي في الحقيقة
لامعة إن نظرت إليها من خلال
الأشعة تحت الحمراء.
ففي الخارج ألوان يمكن للعين أن تميزها.
لكن لدينا تلسكوبات يمكنها تمييز
موجات طولية أطول كثيرًا.
في أورايون يوجد سديم عاكس اسمه إم 78.
بين إن 78 والأرض خيوط طويلة
من غبار بارد ومعتم تحجب الضوء
من السديم العاكس خلفه،
وما يبدو أنهارًا مظلمة تجري عبرها.
لكن حين تستخدمون التلسكوب
يمكنكم رؤية ضوء بطول موجي
قيمته مليمتر تقريبًا. ذلك الغبار يتوهج
لامعًا مخترقًا إن 78 كأشرطة نارية.
مثل كل شيء آخر في الحياة،
ما تراه يعتمد حقًا على ما كيفية
رؤيتك له. إن كان في هذا درس للحياة
فلا تتردد في تعلمه. تعلمت اليوم أن
السدم سحب غبار وغاز،
وأن بإمكانها أن تضيء بذاتها
أو تعكس ضوء النجوم القريبة.
وحين تتوهج، تكون عادة حمراء
من الهيدروجين وخضراء من الأكسجين
وحين تعكس الضوء وتشتته
فهذا بسبب النجوم الكبرى الساخنة، لذا…
تبدو زرقاء، النجوم تولد في بعض السدم
وتخلق نجومًا جديدة حين تموت.
بعض السدم صغيرة وكثيفة، وعرض الأخرى
قد يكون عشرات أو مئات السنين الضوئية.
وهي أيضًا رائعة الجمال.
تم إنتاج Crash Course Astronomy
بالتعاون مع استوديوهات PBS Digital.
تابعوا قناتهم على يوتيوب
لتشاهدوا المزيد من الفيديوهات الرائعة،
كاتب هذه الحلقة هو أنا فيل بليت.
صحّح النصّ بليك دي باستينو،
ومستشارتنا هي د. ميتشل ثولر.
الحلقة من إخراج نيكولاس جنكنز
ومونتاج نيكول سويني.
ومصمّم الصوت هو مايكل أراندا
وفريق الرسومات هو Thought Café.