لاحظ كثيرون
أنّ علم الفلك يبعث على التواضع في نفس دارسه.
فكلما اكتشفنا شيئًا جديدًا
نجد أنفسنا أبعد ما يكون عن الأهمية.
كوكب الأرض ما هو إلا واحد من كواكب كثيرة
ويدور حول شمس هي نجم من بين مليارات مثلها
ويقع في أطراف مجرة
هي واحدة من مئات مليارات المجرات.
يسهل الشعور بالضآلة
عند رؤية كل تلك العظمة التي في الفضاء.
ونواصل نحن علماء الفلك
زيادة الأمر سوءًا،
لأنّنا بتنا نعلم الآن
أنّ الوجود ليس محصورًا بما نستطيع رؤيته.
المادة الطبيعية والتي نتكون
منها نحن وكل ما نراه في الكون،
ما هي إلا جزء صغير مما يوجد في الفضاء.
حان الوقت لنتكلم عن مادة سوداوية للغاية.
كانت عالمة الفلك فيرا روبين تراقب
المجرات الحلزونية في الستينيات والسبعينيات.
كانت مهتمة بطريقة دورانها
لأنّ ذلك يعلمنا الكثير عن المجرة.
فكروا في النظام الشمسي.
اكتشف يوهاناس كبلر في القرن الـ17 أنّه كلما
ابتعد الكوكب عن الشمس كان مداره حوله أبطأ،
وفصل إسحق نيوتن ذلك الاكتشاف بالأرقام
عبر حساب قوة جاذبية الشمس.
أي أنّ باستطاعتنا
معرفة كتلة الشمس وكذلك المجرات.
إن كان باستطاعتكم قياس كيفية دورانها
وسرعة حركة سحب الغاز في مداراتها
قرب حاف المجرة مثلًا،
يمكنكم حساب كتلة المجرة بأكملها.
المجرات كبيرة جدًا
ولا يمكنكم فعليًا رؤية السدم تتحرك،
ولكننا نستطيع قياس انحرافها الدوبلري
والذي بدوره ينبئنا بسرعتها.
ما توقعت روبين رؤيته
هو أنّه كلما ابتعدت سحابة الغاز
عن مركز المجرة كلما بطأت حركتها أكثر،
مثلما تتحرك الكواكب الأبعد عن الشمس
بسرعة أبطأ في مداراتها.
ولكنّ ما اكتشفته كان معاكسًا.
ففي مجرات كثيرة،
كلما ابتعدتم عن المركز زادت سرعة السحب.
وحتى في أفضل الحالات كانت السرعات تستقر
عند حد معين حيث كان ينبغي انخفاضها.
ذلك عنى أنّ جاذبية المجرة
ثابتة على مدى القرص،
بدلًا من الانخفاض
كلما ابتعدنا عن المركز كما يتوقع المرء.
ولكنّ ذلك غريب. تُظهر صور المجرة
أن عدد النجوم والأجرام الجسيمة الأخرى
ينخفض كلما ابتعدنا أكثر عن المركز.
كتلة الأجرام في المنطقة البعيدة عن المركز
غير كافية لتفسير معدلات الدوران السريع،
أو أنّ كتلة ما يمكننا رؤيته غير كافية.
التبرير الوحيد هو وجوب
وجود مادة مظلمة تساهم في زيادة الجاذبية،
وهو شيء ما غير النجوم والغاز والغبار.
ليس ذلك فحسب، بل إن المجرة
لا بد أن تكون محاطة بهالة من هذه المادة
لتحقق أشكال رسوم الدوران البيانية.
ولا بدّ أنّ هناك الكثير من تلك المادة.
اكتشفت روبين أنّ كمية هذه المادة غير المرئية
يجب أن تعادل 5 أضعاف المادة المرئية.
في الثلاثينيات من القرن الماضي،
استنتج عالم الفلك فريتز زويكي الأمر نفسه
بقياسه سرعات المجرات في تكتلات المجرات.
كانت المجرات في تلك التكتلات تتحرك بسرعة
أكبر من الحد الذي يسمح ببقائها داخلها.
فسرعاتها التي تم قياسها
كان ينبغي أن تجعلها تنفلت عن التكتل.
فاستنتج من ذلك أنّ الجاذبية في تلك التكتلات
تفوق ما هو ناجم عن المادة المرئية.
تبيّن أن ملاحظات زويكي كانت غير يقينية إلى حد
كبير يحول دون استخلاص نظريات متينة منها،
إذ أنّه بالغ للغاية
في تقدير كمية المادة غير المرئية.
أمّا استنتاجات روبين
فكانت أفضل وأدق بكثير.
إلّا أنّ ظللنا نستخدم المصطلح الذي استخدمه
زويكي للإشارة إلى تلك المادة الغامضة،
وما زلنا نستخدمه إلى يومنا هذا:
ألا وهو المادة المظلمة.
أكدت المشاهدات التالية لهذه الظاهرة
قياسات روبين على مر السنين.
فنحن نلاحظ سلوكًا مشابهًا
في المجرات الإهليليجية على سبيل المثال.
وللمفارقة، تُظهِر قياسات أفضل لسرعات أجرام
تكتلات المجرات أنّها تتحرك بسرعة كبيرة فعلًا،
وعليه لا بد أن تحتوي تلك التكتلات
على مادة مظلمة فيها أيضًا.
كان زويكي محقًا للسبب الخطأ.
وفي النهاية عزي فضل الاكتشاف لروبين.
بالطبع، فإن فكرة وجوب
أن تكون معظم مادة الكون مظلمة
قوبلت بالشكوك من قبل علماء الفلك،
فكل شيء يُصدر ضوءًا من نوع ما.
ولكنّ المزيد من المشاهدات
واصلت مساندة فكرة وجود المادة المظلمة.
فما هي المادة المظلمة إذًا؟
كان ذلك هو السؤال المهم.
كان علماء الفلك منهجيين،
فقد أدرجوا كل شيء يخطر ببالهم
يمكن أن يكون هو تلك المادة المظلمة:
غازات باردة أو غبار أو نجوم ميتة أو كواكب
مارقة غير المرتبطة بنظام نجمي وكل شيء،
حتى الجسيمات دون الذرية الغريبة
التي تم التنبؤ بها في نظريات ميكانيكا الكمّ
ولكن لم تُرى سابقًا قط.
ثمّ فكروا في طرق للكشف عن تلك الأجسام.
فالغاز البارد مثلًا
من شأنه أن يُطلق أمواج راديو.
ولكنّهم فشلوا في جميع محاولاتهم.
شطبوا المُقترحات من القائمة
واحدة تلو الأخرى،
واستبعدوا في نهاية المطاف
كل ما هو مصنوع من مادة اعتيادية،
كالذرات والجزيئات
والبروتونات والإلكترونات والنيوترونات.
وكل ما تبقى في القائمة
هو تلك المادة الغريبة،
تلك الجسيمات دون الذرية
التي لم يرها أحد قط.
تُدعى إحدى تلك الجسيمات أكسيونات.
لم يتم رصدها من قبل قط،
ولكنّ خصائصها تُطابق ما ينتج عن المادة المظلمة.
للأكسيونات كتلة،
فإن كانت هناك سحابة ضخمة منها،
ستكون جاذبيتها كافية للتأثير في المجرات.
ولا ينبعث عنها ضوءًا كثيرًا
ما يجعل سحبها مظلمة وإن كانت ضخمة.
كما أنّ لها خاصية غريبة أخرى،
فهي لا تتفاعل مع المادة الطبيعية بشكل جيد.
سيخترق الأكسيون
جسم الواحد منا كأنه غير موجود.
إن كانت المادة المظلمة مصنوعة من الأكسيونات،
ما كنا لنراها حتى لو كانت
سحبًا منها تُغلف تكتلات المجرات.
إن كان ذلك صحيحًا،
فكيف نعلم يقينًا بوجودها من عدمه؟
اتضح أنّ هناك طريقة.
ولكن قبل أن أتحدث عنها
علينا التطرق إلى أمر غريب جدًا،
بل هي أمور غريبة عِدّة في الواقع.
فكما ذكرتُ في حلقة الثقوب السوداء،
إحدى نظريات ألبرت أينشتاين المهمة
هي أنّ الفضاء ليس خواءً بين النجوم،
بل هو مادة بحد ذاته نوعًا ما
وباقي المادة والطاقة كلها محشوة داخله.
ورغم أنّه يجب الحذر
من فهم التشبيه بشكل حرفي،
إلّا أنّه أشبه بنسيج يلتصق به كل شيء.
هذا ليس مجرد مفهوم نظري
إذ إنّ له تبعات حقيقية،
فما نعتبره جاذبية مثلًا،
أي القوة التي تعمل عل تجاذب أي جسمين،
هو في الحقيقة انبعاج في نسيج هذا الفضاء
أو تقعر ككرة بولينغ على فراش طري.
ذلك يجعل سطح الفراش ينبعج
وإن رميت بِلية بجانبه فسينحني مسارها.
وهذا ينطبق على الضوء أيضًا،
فالأمر أشبه بانعطاف في الطريق
تنعطف معه السيارات والشاحنات العابرة.
كل شيء يفعل ذلك.
أمّا الضوء فلا ينحني بقدر ما تنحني المادة،
ولكنّه ينحني
إن تحرك في فضاء شوهته الجاذبية.
ازدياد حجم الجسم يزيد جاذبيته ما يزيد
بعجه للفضاء فيزيد حرفه لمسار شعاع الضوء.
أتعلمون ماذا يحني الضوء أيضًا؟ العدسة.
لذلك السبب نسمي هذا التأثير
عدسة الجاذبية.
تصوروا الآن تكتّل مجرات،
له كتلة ضخمة في حيز صغير نسبيًا،
وأعني مقارنةً بحجم الكون. إن كانت هناك
مجرة في الطرف المقابل لنا من التكتّل
وأكثر بعدًا عنّا بكثير، ينحني الضوء
الصادر من المجرة البعيدة في طريقه إلينا؟
وقد تتشوش صورة المجرة وتتشوه
مُحدثة أشكالًا عجيبة وغريبة.
تفيد معادلات أينشتاين بأنّ مقدار الانحناء
يعتمد على كتلة مجموعة المجرات.
لذلك يمكننا نظريًا قياس كتلة المجموعة
من خلال تشوه صورة الأجسام التي خلفه.
ليس ذلك فحسب،
بل إن ذلك يمنحنا خريطة لموقع تلك الكتلة.
استخدم علماء الفلك هذه الطريقة على تكتل
مجرات يبعد عنا 3،5 مليار سنة ضوئية،
واسمه مجموعة الرصاصة.
إنّه جسم مميز للغاية،
إذ أنّه ليس مجرد تكتّل واحد
بل تصادم لتكتّلين.
ذلك صحيح،
إنّ مجموعتي مجرات ضخمتين تصطدمان
وقد تندمجان معًا في النهاية لتشكلا تكتّلًا أضخم.
عندما تصطدم المجرات ببعضها البعض
فإنها تعبر بعضها كما لو كانت أشباحًا،
ولكنّ بين المجرات في التكتّلات
توجد كميات هائلة من الغازات.
عندما تصطدم التكتّلات
تتصادم غازاتها وترتفع حرارتها للغاية،
لدرجة أنّ الغازات تُصدر أشعة سينية حينها.
ويشكل هذا فرصة مثيرة للاهتمام.
تُظهر صور الضوء البصرية التكتّلين
بجانب أحدهما الآخر، وقد أتما العبور.
تخترق المجرات بعضها البعض كما هو مُتوقع،
ولكنّ الغازات في التكتّلات لا تستطيع فعل ذلك،
لذا نتوقع وجود معظمها بين المجرات بعد
أن تباطأت بفعل اصطدام السحابتين ببعضهما.
باستخدام مرصد تشاندرا الفضائي للأشعة السينية،
استطاع علماء الفلك
تحديد موقع ذلك الغاز الساخن،
وكما هو متوقع، اتضح أنه يقع بين المجرات
في غالبيته لكونه تباطأ بعد الاصطدام.
يمكننا حتى
رؤية الأشكال التي صنعها تصادم الغازات،
والتي تبدو في إحدى التكتلات
كموجات صنعها قارب سريع يشق طريقه في الماء.
ولكنّ هناك المزيد.
فرغم بُعد تكتّل الرصاصة الشديد عنا،
إلّا أنّ هناك مئات المجرات أبعد منه
والتي ويمكن رؤيتها في الصور الضوئية.
شوهت جاذبية المادة في تكتّل الرصاصة
صور المجرات التي في الخلفية على نحو ضئيل.
وبقياس ذلك الانحراف بعناية تم وضع خريطة
لكلّ المادة الموجودة داخل تكتّل الرصاصة
بما فيها المادة المظلمة.
إن كانت المادة المظلمة
مصنوعة من الأكسيونات،
نتوقع عندها أن تحيط بالتكتلات الفرعية،
لأنّ سحب أكسيونات المادة المظلمة
ستنفذ عبر بعضها كالمجرات.
وذلك ما ترونه تمامًا عندما ترسمون الخارطة.
تُظهر المجرة الخلفية وجود الكثير من المادة،
وهي المنطقة بنفسجية اللون في الصورة،
وهي متمركزة بين التكتّلين،
ولكنّها حتمًا ليست الغازات الساخنة
التي رآها مرصد تشاندرا،
كما أنّه ينبعث منها ضوءًا
وتبدو كالمادة المظلمة تمامًا.
منذ اكتشاف تكتّل الرصاصة
أبدت تكتلات أخرى السلوك نفسه.
أجرِيَت محاولات لتفسير هذه التكتّلات
من دون المادة المظلمة،
ولكنّ أبسط تفسير لها بدا الأفضل في النهاية.
ليس ما نراه كل ما هو موجود.
ما زلنا بصراحة نجهل ماهية المادة المظلمة.
الأكسيونات مجرد احتمال واحد
ولكن هناك غيره.
أجريت تجارب كثيرة
لمحاولة رصد أنواع الجسيمات دون الذرية،
ولكنّ المادة المظلمة بطبيعتها، لا تًصدر
ضوءًا ولا تتفاعل مع المادة الاعتيادية،
ما يجعل العثور عليها شديد الصعوبة.
ولذلك تطَلّب اكتشاف وجودها وقتًا طويلًا أساسًا.
اتضح أنّ تأثير المادة المظلمة في الكون
هائل بالرغم من كونها صعبة الرصد للغاية.
وكما سنرى في حلقات قادمة
أصبحت لدينا فكرة جيدة عن نشأة الكون
وكيفية تطوره على مر الدهور.
نعتقد أنّ الأجسام الأصغر نشأت أولًا
ثم تكتلت في أشكال وبُنى أكبر فأكبر،
فنشأت النجوم أولًا
ثمّ المجرات ثمّ تكتلات المجرات.
اتضح أنّ تكوّن البُنى الأكبر حجمًا
كان سيزداد صعوبة في بدايات الكون
لأنّ انبعاث الطاقة
من النجوم والمجرات الوليدة
كان سيعيق تكتل الأجسام الأكبر،
أقصد ما لم تكن هناك مادة مظلمة،
وعندما نشمل المادة المظلمة في الفيزياء،
يُصبح بالإمكان للبنى التي نراها في الكون
أن تنشأ. ما رأيكم في ذلك؟
%85 من مادة الكون غير مرئية
وبالكاد يمكننا رصدها،
وهي مصنوعة من شيء نجهل ماهيته،
ولكنّ البُنى الأكبر حجمًا في الكون
تدين بوجودها لتلك المادة.
قد نغترّ نحن البشر قليلًا
لظنّنا بأنّنا نحتل مكانة مميزة في الكون.
ونحن محقون نوعًا ما
لأنّ معظم الكون خواء بارد
ونحن نعيش في جزء دافئ وكثيفٍ نسبيًا منه.
ولكنّ المواد التي نتألف منها، بروتونات
وإلكترونات ونيوترونات المادة الاعتيادية،
عددها قليل بالمقارنة
بكلّ المادة الموجودة في الكون.
كان أوبي وان كانوبي محقًا نوعًا ما.
فقد لا تكون هناك قوّة سحرية
ولكن هناك مادة مظلمة.
إنها تحيط بنا وتخترقنا
وتربط المجرة ببعضها البعض.
تعلمتم اليوم أنّ نوع المادة التي نراها
والتي نسميها بالمادة الاعتيادية
هي نوع واحد فقط من المادة.
فهناك أيضًا مادة مظلمة لا يمكننا رؤيتها مباشرة
تتفاعل مع المادة الاعتيادية
من خلال الجاذبية فقط.
إنّها تؤثر في دوران المجرات
وحركتها في تكتّلات
وتؤثر في كيفية نشأة البُنى
الضخمة في الكون.
يُستدل عليها بطرق كثيرة،
أحدها مراقبة تأثير كتلتها في مسار الضوء
الصادر من المجرات البعيدة
بينما يمر عبر المادة المظلمة
في تكتلات المجرات.
يتم إنتاج سلسلة Crash Course لعلم
بالاشتراك مع أستوديوهات PBS Digital.
زوروا قناتهم
لمشاهدة المزيد من المقاطع الرائعة.
هذه الحلقة من كتابتي أناـ فيل بليت
والنص من تحرير بليك دي باستينو
ومستشارتنا هي د. ميشيل ثالر.
أخرجها نكولاس جنكينز
ومنتجتها نيكول سويني
وصمم الصوت فيها مايكل أراندا
والرسومات من إعداد فريق Thought Café.