على مدى الأسبوع الماضي، تحدثت عن شمسنا
وكواكبنا وأجرام أخرى في نظامنا الشمسي،
النجوم الكبيرة والصغيرة والنجوم البنيّة
والكواكب الخارجية والمستعرات العظمى
وسحب الغاز والغبار.
وما العامل المشترك بينها كلها؟
نحن جميعًا نعيش في البلدة نفسها، وتُسمى
مجرة درب التبانة.
فلنتطرق إلى الموضوع، مجرة درب التبانة
عبارة عن تجمّع قرصي شاسع مسطح
من الغاز والغبار والنجوم، مدينة ضخمة ممتدة
عرضها مئة ألف سنة ضوئية
وسمكها عدة آلاف سنة ضوئية. والشمس
ليس إلّا نجم من مئات مليارات النجوم فيها،
ونحن نقع في نصف المسافة من المركز،
أي في ضواحيها.
للقرص ذراعان حلزونيان كبيران وذراعان صغيران
وهي تجتمع معًا في منتصف المجرة تقريبًا.
وفي منتصف القرص، هناك حاجز
عبارة عن تجمع أسطواني طويل
من النجوم الحمراء القديمة.
أعرف، يصعب استيعاب كل هذا لكني سأشرح
كل نقطة على حدة. وكيف نعرف هذا كله؟
كما هو الحال مع الاكتشافات الفلكية الأخرى،
يبدأ بكل بساطة
بالخروج إلى العراء والنظر إلى السماء.
إذا صدف وكنا في مكان مظلم في ليلة لا قمر
فيها، سنرى وهجًا ضبابيًا خافتًا يمتد عبر السماء.
وتتفاوت درجة السطوع فيه من مكان لآخر،
وإن كانت كوكبة القوس مرئيتين
سنلاحظ أن الوهج يزداد اتساعًا
ويشكّل نتوءًا أكبر من حجم يد ممدودة.
هذا الوهج الشبيه بممر أو نهر يكون قويًا،
وقد رأته العديد من الحضارات القديمة هكذا
لأنه يتوهج بلون أبيض باهت،
وقد سماه قدماء الإغريق “غلاكسيوس” أو “حليبي”،
وبمرور آلاف السنين، ترسخ ذلك الاسم
ولذلك نسميه الآن “درب التبانة”
أو “مجرة درب التبانة”.
لكن ما هو ذلك الوهج؟
كان يُعتقد أنها كتلة سديم أو الضباب،
حتى وجّه رجل اسمه غاليليو ذات يوم
تلسكوبه حديث الصنع إليه،
ودُهش عندما رأى أنه مكون من آلاف النجوم،
وكانت متقاربة وخافتة جدًا
لدرجة أن أعيننا المجردة لم تستطيع رؤيتها
متفرقة، لذلك اندمجت معًا
وشكّلت ذلك الوهج.
من الواضح أن في السماء نجومًا أكثر
من الـ6 آلاف نجم التي تراها أعيننا المجردة،
لكن كم عددها؟
وما الشكل العام الذي تتخذه؟
زعم العلماء أن عد النجوم في اتجاهات مختلفة
قد يكشف عن ذلك الشكل،
فإذا كانت المجرة تمتد في اتجاه ما
أكثر من غيره سنرى نجومًا أكثر في ذلك الاتجاه.
وعلى مدى قرون، كانت الخرائط تُرسم بتلك الطريقة
وأظهرت أن المجرة بيضاوية الشكل
أو على شكل قرص مسطح
والشمس قرب مركزه.
طريقة عد النجوم هذه فكرة جيدة
لكن فيها عيوب خطيرة،
فهي لا تعدّ الغبار الكوني. وكما رأينا في حلقة
السديم، يمتص الغبار ضوء النجوم المرئي
ويخفيها عن مرآنا، كما حين نكون
في غرفة مليئة بالدخان ونعجز عن رؤية الجدران،
سيبدو كأن الغرفة أصغر مما هي في الحقيقة
وسيبدو كأنك في مركزها
حتى لو كنت قرب أحد الجدران.
التجمعات الكروية كانت دليلًا جيدًا
على أن هناك شيء آخر يحدث،
كرات النجوم الكروية هذه
تدور حول مركز المجرة
وعددها في أحد جانبي السماء أكثر من الجانب
الآخر، وما كان هذا ليحدث لو كانت
موزعة بالتساوي في الفضاء، أبسط تفسير لذلك
هو أنها كانت بالفعل موزعة بالتساوي في الفضاء
لكن نحن كنا بعيدين عن المركز. تبين القياسات
أن الشمس تبعد نحو 25 ألف سنة ضوئية
عن المركز المجري
الذي كان في اتجاه كوكبة القوس.
وتذكروا! إنه المكان الأكثر سطوعًا
واتساعًا في درب التبانة،
أهي مصادفة؟
الآن بدأت الأمور تترابط، لا بد أن درب التبانة
قرص مسطح فيه انتفاخ من الوسط،
والشمس في ذلك القرص بعيدًا عن مركزه.
من داخل القرص، نراه كخط عريض في السماء
وعندما ننظر نحو المركز،
في اتجاه كوكبة القوس في السماء، نرى الانتفاخ
كنقطة كبيرة، والقرص رفيع وليس عريضًا،
لذلك عندما ننظر داخل القرص، نرى نجومًا أكثر
مما نرى عندما ننظر للأعلى أو الأسفل خارجه.
لكن ماذا عن القرص نفسه؟
هل له بنية أم هو كطبق مسطح أملس؟
من الصعب معرفة هذا باستخدام الضوء المرئي
لأن الغبار يعيق رؤيتنا بشدة.
عند النظر للقرص، يمكننا رؤية حوالى ألف سنة
ضوئية قبل أن يحجب الغبار كل شيء وراءه.
لكن مع ظهور علم الفلك الراديوي،
عرفنا ذلك أيضًا.
السحب الغازية التي تكوّن النجوم تبعث
طولًا موجيًا ضيقًا جدًا من الموجات الراديوية،
ويمكننا استخدام هذا لقياس تأثير دوبلر،
أي السرعة التي تتحرك بها نحونا أو بعيدًا عنا.
عند وضع افتراضات أساسية أخرى، أمكن معرفة
بُعدها التقريبي أيضًا وظهرت نتيجة مذهلة:
مواقع تلك السُدم أشارت إلى أن قرص درب التبانة
كان مقسمًا إلى أذرع حلزونية،
أذرع ضخمة منحنية
تمتد عشرات آلاف السنوات الضوئية
على طولها.
وجميع النجوم الضخمة الساطعة صغيرة العمر
توجد في هذه الأذرع الحلزونية أيضًا،
ولا يوجد أي منها في الفجوات الظاهرة
بين الأذرع، لكن هذا منطقي،
فمثل جميع النجوم، تتشكل الضخمة منها
في سُدم عملاقة، لكنها على خلاف معظم النجوم،
لا تعيش طويلًا قبل أن تتفجر كمستعرات عظمى.
إن كانت معظم السُدم في الأذرع
فستكون هذه النجوم الضخمة هناك أيضًا،
ولن تعيش طويلًا لتبتعد كثيرًا عن أماكن نشوئها
قبل أن تنفجر.
وهنا تصبح الأمور غريبة لحد ما،
ربما نعتبر الأذرع كيانات قائمة،
تجمعات ضخمة من النجوم والسُدم
تتحرك معًا حول مركز المجرة
لكن هذا ليس صحيحًا، لو كانت كذلك
لالتفت كما يلتف الخيط على بكرة،
وذلك لأن النجوم والسُدم
الأقرب إلى المركز المجري تدور بسرعة أكبر
لكننا نعرف أن الأذرع الحلزونية موجودة منذ مدة
وهي ليست ملتفة،
وهذا لأنها ليست كيانات فعلية،
بل هي ازدحام مروري.
تصوروا طريقًا سريعًا مكتظ بالسيارات،
إذا أبطأت سيارة واحدة لسبب ما
ستبطئ السيارة التي خلفها
وكذلك السيارة التي خلف هذه.
هذا يشبه موجة تتحرك للوراء عبر حركة السير
وتخفف سرعة الجميع.
وحيث تتباطأ تتجمع أيضًا، لذلك نرى مزيدًا
من السيارات والشاحنات في الازدحام.
الأمر الغريب في أزمات السير أنها تستمر
لوقت طويل حتى والسيارات تخرج منها،
فالسيارة التي في الأمام قد تتباطأ لوهلة
ثم تسرع وتبتعد،
لكن السيارات التي خلفها تظل تتحرك ببطء
وتتجمع سيارات أكثر في الخلف،
مقابل كل سيارة تخرج من الازدحام في المقدمة
تدخل أخرى من المؤخرة،
رغم أن كل سيارة تدخل وتخرج
إلّا أن الازدحام يستمر.
الأذرع الحلزونية هي الظاهرة ذاتها.
ربما بدأت الموجة الأولية، الازدحام،
بسبب اضطراب في القرص،
ربما تكونت منطقة شديدة الكثافة
عندما اصطدمت بعض السحب الجزيئية ببعضها،
وعندما تتكون، يمتد تأثيرها إلى الخارج
كموجات مائية في بركة، ثم يُجزأ إلى موجة
حلزونية بواسطة دوران الأجسام في القرص.
تدخل النجوم والسدم إلى الموجة
وتتراكم قليلًا وتعبرها
ثم تستأنف حركتها الحلزونية عندما تخرج منها.
تستغرق شمسنا حوالى 250 مليون سنة
لتدور في المجرة، وهذا يعني
أنها قامت بنحو 20 مدارًا منذ وُلدت.
دخلت وخرجت من الأذرع الحلزونية
مرات عديدة خلال حياتها الطويلة.
لهذا لا تلتف الأذرع الحلزونية على نفسها،
الأذرع هي موجات مصنوعة من أجسام فيها
لكن الأجسام ذاتها عابرة.
لكن هناك تفسير آخر، عندما يدخل سديم
إلى ذراع حلزوني قد يصطدم بسديم آخر سبقه،
حادث مرور كوني، لكن عندما يحدث ذلك
قد ينهار السديم مشكلًا نجومًا،
بعضها ضخم ومنير وأزرق وساخن.
ومن السهل رؤية هذه النجوم من مسافات بعيدة،
فهي تجعل الأذرع الحلزونية تبدو زرقاء
كما أنها تضيء الغاز المحيط بها.
وتبرز بهذا الأذرع الحلزونية.
الأذرع الحلزونية هي المكان الذي تولد فيه
النجوم وهو ما يساعد على دوام الشكل الحلزوني،
إنها أفضل مشروع تعهيد جماعي.
بعد ذلك كله، من الصعب معرفة
عدد الأذرع الحلزونية في درب التبانة.
كان يُعتقد أن لها ذراعين لفترة طويلة،
لكن دراسة حديثة لمواقع العناقيد النجمية
تشير إلى أنها أربعة.
ما زال علماء درب التبانة في جدل حول هذا
لكن في كلا الحالتين، هناك نتوءات قصيرة
تبرز من الأذرع الكبيرة أيضًا.
وشمسنا تقع خارج أحد هذه الأذرع الأصغر
ويسمى “ذراع الجبار”.
رسم خرائط الأذرع الحلزونية للمجرة
عمل لا يتوقف وهو مربك نوعًا ما.
يشبه أن تكون داخل بركان وتحاول اكتشاف بنيته،
لكننا نبلي بلاءً حسنًا حتى الآن؟
في مركز المجرة، يوجد الانتفاخ،
وتشير مراقبات حديثة إلى أنه قضيب أسطواني
من النجوم الحمراء موجّه إلينا مباشرة
لذلك يبدو لنا دائريًا.
هذه المنطقة قديمة جدًا.
ولادة النجوم فيها حدثت منذ زمن طويل،
وتوقفت عندما نفد الغاز، وعلى خلاف الأذرع
الحلزونية حيث ما زالت النجوم تولد بنشاط
جميع النجوم الزرقاء في القضيب
ماتت منذ مدة طويلة، تفجرت مخلّفةً وراءها
مليارات النجوم الحمراء الأقل كتلة.
يبلغ طول القضيب على الأرجح 20 ألف سنة ضوئية،
وهذه البنية الغريبة
سببها الجاذبية الغريبة للقرص المجري. وبخلاف
نظامنا الشمسي حيث الشمس تسيطر على الجاذبية
جاذبية المجرة منتشرة عبر منطقة شاسعة.
هذا التوزيع للنجوم والجاذبية
يعني أن كيانات جديدة قد تنشأ وتقوم بذاتها،
كالأذرع الحلزونية والقضبان المركزية،
لكن على خلاف الأذرع، يدور القضيب كوحدة واحدة
والنجوم القريبة من الحافة تقوم بمدار واحد في
الوقت نفسه الذي تكون فيه النجوم أقرب للداخل.
في مركز المجرة، يوجد ثقب أسود ضخم جدًا
كتلته ضعف كتلة الشمس 4 ملايين مرة.
قد يبدو هذا ضخمًا، لكن تذكروا
أن المجرة فيها مئات مليارات النجوم،
الثقب الأسود المركزي هو مجرد جزء صغير جدًا
من المجرة ككل،
لكننا سنعرف المزيد عنه في حلقة قادمة
وسنرى أنه قد يكون لعب دورًا كبيرًا
في تشكّل مجرتنا وفي التطور.
آخر عنصر في درب التبانة هو هالته،
وهي سحابة كروية كبيرة من النجوم
تحيط به على مسافة بعيدة
تتجاوز 100 ألف سنة ضوئية.
لا نعرف الكثير عن الهالة، لكننا نعرف
أن النجوم فيها قديمة. فما من نجوم تتشكل هناك
لذا، النجوم التي نراها فيها قديمة حتمًا،
ومحتمل أن بعض نجوم الهالة تشكلت فيها
بينما أخرى قُذفت إليها
بعد تصادم مع نجوم عناقيد أخرى.
بمناسبة هذا، معظم التجمعات النجمية
التي تدور في درب التبانة موجودة في الهالة،
وعددها أكثر من 150.
إذن، ها قد عرفتموها، بلدتنا المجرية المحلية،
لكن كأي مقيم في بلدة صغيرة،
من الطبيعي أن نتساءل إن كان هذا كل شيء،
ماذا يوجد في الخارج؟
وفي بداية القرن العشرين،
بدأ علماء الفلك يسألون السؤال نفسه.
هل درب التبانة هو المجرة؟
أم هو إحدى المجرات؟
نحن نوشك أن نخطو خطوة كبيرة
في “Crash Course لعلم الفلك”، كبيرة جدًا.
الأفضل أن تستعدوا، في الحلقة القادمة،
سنبدأ التوسع أكثر في الكون.
تعلمتم اليوم أن درب التبانة هو مجرة قرصية،
تجمع للغبار والغاز ومئات مليارات النجوم،
وتقع الشمس في منتصف المسافة
بعيدًا عن مركزها.
للقرص نتوءات حلزونية كبيرة
تشكلت نتيجة الازدحام المروري للنجوم والسُدم،
وفيها تولد فيه النجوم. المنطقة المركزية تتخذ
شكل القضيب ومعظمها مكون من النجوم الحمراء،
وهناك أيضًا هالة تحيط بنا
مكونة من نجوم قديمة.
سلسلة Crash Course لعلم الفلك
منتجة بالتعاون مع PBS Digital.
زوروا قناتهم على اليوتيوب
لمشاهدة المزيد من الفيديوهات الرائعة.
هذه الحلقة من تأليفي أنا فيل بليت
وحرر النص بليك دي باستينو
ومستشارتنا هي د. ميشيل ثالر.
أخرج الحلقة نيكولاس جنكنز وحررها نيكول سويني
مصمم الصوت هو مايكل أراندا
وفريق الرسومات هو Thought Café.