تحدثت كثيرًا عن مراقبة السماء ليلًا بالعينين،
الخروج ببساطة ورؤية ما يمكن رؤيته.
مدهش جدًا ما يمكن تعلمه عند عمل ذلك.
وبالطبع هذا كل
ما كان بمقدور البشر فعله لآلاف السنين.
لكن الآن يمكننا عمل أفضل من ذلك
ويمكننا استخدام التلسكوب.
أول مخترع للتلسكوب مجهول،
فرغم المعلومة الشائعة،
غاليليو لم يخترعه، ولم يكن حتى
أول شخص يوجه تلسكوب نحو السماء
أو أول شخص ينشر نتائج!
لكنه كان صوتًا قويًا ومُثابرًا على مدى السنين.
وسلسلة اكتشافاته المذهلة باستخدام أداته
البسيطة رسخت اسمه بقوة في كتب التاريخ.
فالتسويق الذاتي القوي يُجدي نفعًا أحيانًا.
قد تظنون الغرض من التلسكوب هو تكبير
الأجسام الصغيرة لنتمكن من مشاهدتها بشكل أفضل.
هكذا تُسوق الكثير من التلسكوبات
لكن بصراحة، الواقع مختلف.
إذا أردنا التحدث بشكل عام،
فإن الهدف من التلسكوب
هو تسهيل رؤية الأجسام؛ جعل اللامرئي مرئيًا
والمرئي مرئيًا أكثر.
يعمل التلسكوب عن طريق جمع الضوء.
تخيلوه كدلو تحت المطر،
كلما كان أكبر جمع المزيد من المطر. إذا كان
الدلو كبيرًا جدًا ستحصل على كمية كبيرة من الماء
حتى لو كان المطر خفيفًا.
وبالنسبة للتلسكوب، فإن الدلو
هو جهاز بصري كعدسة أو مرآة تجمع الضوء.
ونسمي هذا الجهاز بالهدف، وكلما كبر الهدف
جمع المزيد من الضوء. انظر إلى عينيك…
لكن هذا صعب، لذا دعونا نفكر بأعيننا لحظة.
فهي أيضًا تعمل كدِلاء للضوء،
لكنها تجمع الضوء فقط من خلال الحدقات،
والتي لا يزيد حجمها
عن سنتيمتر واحد حتى في أفضل الحالات،
إنه دلو صغير جدًا بالفعل.
لكن يمكننا التوضيح أكثر. لتوسيع التشبيه،
التلسكوب أشبه بدلو في أسفله قمع،
وكل الضوء الذي يجمعه يتركز ويُرسل إلى عينك،
فتحول قطرة ضوء إلى سيل ضوء.
كمية الضوء التي تجمعها
تعتمد على منطقة الهدف،
وهذا يعني أننا إذا ضاعفنا قطر الجامع
سنجمع أربعة أضعاف كمية الضوء
لأن منطقة الجامع ترتفع كمربع نصف قطر.
وإذا أصبح الدلو أعرض 10 مرات
ستجمع ضعف كمية الضوء مئة مرة!
وبالطبع، كلما زاد حجم التلسكوب
فإن قدرته على أن يرينا
الأجسام الخافتة تزداد بشكل هائل.
والحقيقة أن هذا كان
من أول اكتشافات غاليليو وأهمها،
أن النجوم التي كانت غير مرئية للعين المجردة
كانت تُرى بسهولة عبر التلسكوب
رغم أن عرض عدسته لم يتجاوز بضع سنتيمترات.
تلك النجوم الخافتة لم تبعث كمية ضوء كافية
ليراها بعينيه، لكن عندما
زاد منطقة تجميعه باستخدام تلسكوب
أصبحت مرئية.
الطريقة الرئيسية التي يعمل بها التلسكوب
هي تغيير مسار الضوء المنبعث من جسم.
يُمكنني رؤية نجمة بعيني لأن ضوء تلك النجمة
منبعث في اتجاهي، إلى عيني،
لكن معظم هذا الضوء لا يصيب عيني
ويهبط على الأرض حولي،
لكن التلسكوب يجمع هذا الضوء
ويوجهه إلى عيني.
عندما صُنعت أولى التلسكوبات،
كان تغيير اتجاه الضوء هذا
يتم باستخدام العدسات.
عندما ينتقل الضوء من وسط إلى آخر،
مثلًا، ينتقل من الهواء إلى الماء أو الزجاج
فهو يغير اتجاهه قليلًا، ونحن نرى ذلك دائمًا،
فالملعقة في كوب ماء تبدو معوجة
أو مكسورة، لكنها في الحقيقة سليمة،
لكن الضوء الذي نراه منها
ينحني ويشوّه الصورة،
هذا الانحناء يُسمى “انكسار الضوء”.
تعتمد طريقة انحناء الضوء
على الشيء الذي يحنيه، كالماء أو الزجاج،
وعلى شكل الجسم المنحني.
والواقع، إذا نحتنا قطعة زجاج لتأخذ شكل عدسة،
ستعكس الضوء المنبعث عليها
في شكل مخروطي وتركّزه في بقعة واحدة.
أي تصبح قمعًا ضوئيًا.
ينجم عن هذا الانكسار
نتيجتين مثيرتين للاهتمام،
أولًا الضوء المنبعث من أعلى الجسم البعيد ينحني
للأسفل والمنبعث من أسفل الجسم ينحني للأعلى.
وعندما يتركز هذا الضوء
سنرى الجسم مقلوبًا،
كما أنه ينقلب أفقيًا،
وهو أمرٌ مُربكٌ بعض الشيء ويتطلب التعود عليه
عندما نستخدم التلسكوب الانكساري.
الشيء الآخر، العدسة تُكبّر الصورة
وهذا لأن الضوء منحنٍ،
والصورة المتكونة للجسم المُشاهد
قد تظهر أكبر من الجسم الذي تراه العين.
وذلك يعتمد على عوامل كثيرة
منها شكل العدسة وبعد الجسم،
وبُعد العدسة عنه،
لكن في النهاية، نحصل على صورة أكبر.
ولهذا الأمر مزايا واضحة؛
فكوكب كالمشتري بعيد جدًا
ونراه كنقطة في العين المجردة،
لكن التلسكوب يجعله يبدو أكبر ويظهر تفاصيله.
عندما وجّه غاليليو وعلماء الفلك الأوائل
التلسكوبات نحو السماء، كُشف الكثير،
الفوهات على القمر وأطوار الزهرة
وأقمار المشتري وحلقات زحل
والكثير غير ذلك.
الكون بحد ذاته أصبح أوضح.
عندما يتحدث علماء الفلك عن استخدام تلسكوب
لتوضيح التفاصيل، يستخدمون مصطلح “درجة الوضوح”
وهو القدرة على فصل جسمين
قريبين جدًا من بعضهما.
وهذا أمر نتعرض له، فعند قيادة السيارة ليلًا
تبدو السيارة البعيدة القادمة نحوك
كأنها ضوء واحد،
وعند اقترابها ينفصل ذلك الضوء ويتحلل
إلى مصباحين أماميين.
يعمل التلسكوب على زيادة الوضوح،
ويُسهّل فصل نجمين متقاربين،
أو مُشاهدة تفاصيل سطح القمر،
وتعتمد درجة الوضوح جزئيًا على حجم الجسم.
بشكل عام، كلما زاد حجم الجسم
المشاهَد في التلسكوب
تحسنت درجة وضوحه.
ودرجة الوضوح أكثر فائدة من التكبير
عند الحديث عن التلسكوبات.
في الأساس، هناك حدود
لمدى فصل التلسكوب بين جسمين،
لكن لا حدود لمقدار تكبير الصورة. وإذا كبّرنا
الصورة لدرجة تفوق قدرة التلسكوب على الفصل،
ستكون الصورة غير واضحة.
التلسكوبات الانكسارية رائعة، لكنها تعاني
مشكلة كبيرة هي صعوبة صناعة العدسات الكبيرة،
لأنها تصبح رقيقة عند الحواف وسهلة الكسر،
كما أن ألوان الضوء المختلفة
تنحني بنسب متفاوتة عند مرورها عبر العدسة،
لذلك، فقد نرى نجمة حمراء مثلًا بوضوح
بينما تظل نجمة زرقاء مشوشة.
لا أحد سوى إسحاق نيوتن بنبوغه
وجد حلًا لهذا وهو استخدام المرايا،
فالمرايا تغيّر اتجاه مسار الضوء،
وإذا استخدمنا مرآة منحنية
يمكننا رؤية أشعة الضوء بوضوح. وتُسمى
التلسكوبات التي تستخدم المرايا بالعاكسات.
مزايا العاكسات كثيرة جدًا،
فعلينا تلميع جهة واحدة فقط من المرآة
بينما العدسة تحتوي على جهتين.
كما يُمكن سند المرآة من الخلف
لذلك يمكن تصنيعها
بأحجام أكبر وسهولة أكثر وبتكلفة أقل.
ورغم تحسينات كثيرة على مر القرون،
إلا أن معظم التلسكوبات الكبيرة الحديثة
تعتمد على تصميم نيوتن،
وما من تلسكوبات احترافية كبيرة تُصنع حاليًا
لها عدسة كحجم هدفها.
فحاليًا، كل التلسكوبات تستخدم المرايا.
وبهذا نصل إلى عنوان
حلقة هذا الأسبوع “التركيز”.
السؤال الأكثر شيوعًا الذي يُطرح عليّ
إلى جانب “من يصفف شعرك؟”
هو “ما نوع التلسكوب الذي يجب أن أشتريه؟”
وهو سؤال منطقي لكن تصعب الإجابة عنه،
تخيل شخصًا يأتي إليك ويسألك
“أي سيارة عليّ أن أشتري؟”
من المستحيل إجابة هذا السؤال
دون حصولك على معلومات أخرى.
والأمر نفسه ينطبق على التلسكوبات.
فهل تريد النظر للقمر والكواكب
أم لمجرات أبعد تصعب رؤيتها؟
هل تكرس نفسك لهذا أم أنه لتمضية الوقت فحسب؟
هل التلسكوب لطفل أم لشخص كبير؟
هذه الأسئلة مهمة جدًا.
معظم التلسكوبات الصغيرة هي تلسكوبات انكسارية،
وهي جيدة للنظر بشكل مفصل إلى القمر والكواكب،
وهي تُكبّر الصورة أكثر التلسكوبات العاكسة.
لكن استخدامها صعب لأنها
تقلب الصورة يسارًا ويمينًا وللأعلى والأسفل.
التلسكوبات الكبيرة جيدة لرؤية الأجسام الخافتة
لكنها أغلى وتركيبها واستخدامها أصعب.
وأنا لا أحب السماع عن تلسكوب
لا يُستخدم لأنه ابتيع دون تمعن.
لذلك نصح بالآتي:
ابحثوا عن مرصد فلكي أو نادي فلكي محلي
يقيم فعاليات لمراقبة النجوم يحضرها العامة
حيث يُمكنك رؤية واستخدام
أنواع مختلفة من التلسكوبات.
وعادةً ما يكون أصحابها متحمسين للتحدث عنها.
وبصفتي عالمًا فلكيًا،
أؤكد لكم أن مشكلة علماء الفلك
ليست جعلهم يتحدثون بل جعلهم يصمتون،
لذلك، ستحظون بنصائح وخبرات من أصحاب الشأن.
كما أنصح عادةً بشراء منظار
قبل التلسكوب، فهي سهلة الاستخدام
وممتعة وسهلة الحمل،
ويمكن شراء أنواع جيدة منها بأسعار مناسبة
ورؤية أشياء جميلة،
وحتى إن قررت التوقف عن هواية الفلك
سيمكنك استخدامها في نزهاتك أو
في مراقبة الطيور أنا شخصيًا لدي منظارين
واستخدمهما دائمًا.
هناك جانب ثالث مهم جدًا للتلسكوبات
بالإضافة إلى درجة الوضوح
وتسهيل رؤية الأجسام الخافتة،
حيث يُمكنها أن ترينا أجسامًا خارج نطاق الألوان
التي يُمكن لأعنينا رؤيتها.
عام 1800، اكتشف وليام هيرشيل ضوء الأشعة
تحت الحمراء، وهو ضوء غير مرئي لأعيننا.
ومنذ ذلك الوقت، عرفنا أشكالًا أخرى من الضوء
غير المرئي مثل: الراديو والموجة الصغرية
والأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية
وأشعة غاما. يُمكن مشاهدة الأجرام الفلكية
في كافة أنواع الضوء هذه إن كان لدينا
تلسكوبات مصممة للكشف عن هذه
الأنواع من الضوء. تمر الموجات الراديوية
حول التلسكوبات العادية، تلك التي نستخدمها
لمراقبة الضوء المرئي. أما الأشعة السينية
وأشعة غاما فتمران عبرها كأن لا وجود لها.
لكن البشر أذكياء وعرفوا أن الأطباق المعدنية
العملاقة يمكنها أن تحني الموجات الراديوية
ويمكن تشكيلها مثل تلسكوبات نيوتن
الانعكاسية العملاقة. وفي الواقع،
أشكال الضوء المختلفة تحتاج أنواعًا مختلفة
من التلسكوبات، وحين عرفنا كيف نصنعها صنعناها.
يمكننا الآن التقاط ظواهر كونية
عبر أطياف الضوء بأكملها،
من موجات الراديو إلى أشعة غاما،
وصنعنا تلسكوبات غير تقليدية
تلتقط الجسيمات دون الذرية من الفضاء أيضًا
مثل النيوترينوات والأشعة الكونية.
ونتيجة لهذا عرفنا عن الكون
أكثر مما كان غاليليو يتصور.
ونحن في خضم ثورة أخرى الآن.
الفيزياء الحيوية نفسها معقدة،
لكن أعيننا أشبه بكاميرات السينما،
وتلتقط صورًا بمعدل أطر يبلغ نحو 14
صورة في الثانية، وهو وقت قصير. لكن الصور
الفوتوغرافية يُمكنها أخذ مدة تعريض أطول،
فتسمح بتجمع الضوء
لنتمكن من مشاهدة أجسام خافتة أكثر.
أول صور التُقطت عبر تلسكوب كانت
في القرن التاسع عشر، مما أدى لاكتشافات عديدة،
على سبيل المثال، في القرن العشرين
كشفت التلسكوبات العملاقة بكاميراتها العملاقة
عن تفاصيل في المجرات البعيدة
أدت لفهمنا أن الكون يتمدد،
وهو مفهوم بالغ الأهمية سنخوض فيه
في حلقات لاحقة من هذه السلسلة.
والآن أصبح لدينا كاشفات رقمية
تشبه الموجودة في كاميرا الهاتف،
لكنها أكبر وأكثر حساسية، فحساسيتها للضوء
قد تفوق حساسية الفيلم عشرات المرات
وقادرة على كشف أجسام خلال دقائق
كان كشفها سيتطلب ساعات باستخدام الفيلم.
كما يُمكن تصميم هذه الكاميرات الرقمية للكشف
عن الأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء وغيرهما.
ويمكن تخزين كميات هائلة من تلك البيانات
بيسر على كمبيوترات واستخدام تلك الكمبيوترات
لتحليل هذا الكم الهائل من المعلومات
وتنفيذ مهام مملة جدًا للبشر.
معظم الكويكبات والمذنبات مثلًا يتم اكتشافها
باستخدام برنامج مستقل يبحث عن جسم متحرك
بين عشرات أو مئات آلاف
النجوم الثابتة في صور رقمية.
وأطلق هذا أيضًا حقبة علم الفلك البعيد،
حيث يُمكن وضع تلسكوب على جبل بعيد
وبرمجته لمسح السماء آليًا.
وهذا يعني أيضًا أنه بإمكاننا رفع التلسكوبات
إلى الفضاء، فوق هواء غلافنا الجوي
الذي يشوش ويشوه رؤية لأجسام البعيدة الخافتة.
يمكننا زيارة عوالم أخرى وإرسال الصور
والبيانات إلى الأرض، أو وضع مراصد
كمرصد هابل الفضائي في مدار حول الأرض
ليتمعن في أعماق الكون الفسيحة.
بل إن القرن الماضي
برأيي قد شهد ثورة في علم الفلك
تعادل أهمية اختراع التلسكوب نفسه.
وفي أوائل القرن السابع عشر
كان استكشاف السماء جديدًا،
وأينما وُجه التلسكوب كان يجد كنزًا.
لكن بوجود التلسكوبات الضخمة وتقنيات التصوير
الرقمية عالية الحساسية الآن، ما زال ذلك يحدث.
نتعلم المزيد عن الكون كل يوم
ونعرف أن هناك المزيد لنتعلمه كل يوم.
وهذا من أفضل المزايا
التي يحظى بها عالم الفلك،
الكون يشبه أحجية صور مقطعة
إلى عدد لا نهائي، لذلك فالمتعة لا تنتهي أبدًا.
وتذكر، رغم كل العجائب التي كشفتها التلسكوبات،
تظل أعيننا أداتين مهمتين،
نحن لا تحتاج إلى معدات ضخمة باهرة
لنشاهد السماء،
المهم هو أن نخرج من المنزل
وننظر إلى الأعلى، إنه أمر ممتع أيضًا.
تعلمتم اليوم أن التلسكوبات تقوم بشيئين:
تزيد من قدرتنا في كشف التفاصيل
وتجمع الضوء لنشاهد الأجسام الخافتة.
وهناك نوعان رئيسيان للتلسكوب:
الانكسارية التي تستخدم العدسة،
والعاكسة التي تستخدم المرآة.
هناك أيضا تلسكوبات تستخدم للنظر إلى الضوء
الذي تعجز أعيننا عن رؤيته، ومع اختراع الفيلم
والكاشفات الإلكترونية فيما بعد،
استطعنا استكشاف أعماق الكون المذهلة.
يُنتج Crash Course
بالتعاون مع استوديوهات PBS Digital،
وهذه الحلقة من تأليفي أنا فيل بليت. وحرر النص
بليك دي باستينو، ومستشارتنا هي د. ميشيل ثولر.
شارك في إخراجها نيكولاس جنكينز ومايكل أراندا.
والرسومات من إعداد فريق Thought Café.